فلسفة الإدارة الإستراتيجية
دكتور
عبدالرحيم محمد
خبير التخطيط الإستراتيجي وقياس الأداء المؤسسي
كثيرا ما يدور في أذهاننا هذا السؤال، لماذا التخطيط الإستراتيجي ؟ . هل لأن المؤسسات التي تسعى لتطبيقه كانت لا تعمل بشكل إستراتيجي؟، هل هناك مشكلات واجهت المؤسسات و أجبرتها على تبني وتطبيق هذا المفهوم؟، أم أن المتغيرات التي تحدث في بيئة المنظمة الخارجية هى الدافع الرئيسي إلى ذلك؟.
في البداية ومن مراجعة أدبيات علم الإدارة يمكن تعريف التخطيط بأنه عملية تحديد أهداف ووضع وسائل وآليات واتخاذ قرارات لتحقيقها. ويجب أن نعلم جميعا أن التخطيط هو محور حياتنا ، فنحن نقوم بالتخطيط على مدار اليوم كاملا من الصباح حتى المساء، فعندما تستيقظ من نومك في الصباح تبدأ عملية التخطيط باتخاذ القرارات ، استيقاظك من النوم في حد ذاته قرار، ذهابك إلى الوضوء والصلاة قرار ، ذهابك إلى الدوام قرار، ما تقوم به داخل العمل هو قرارات ، قراءتك لهذه المقالة الآن قرار، وهكذا تستمر هذه العملية حتى نهاية اليوم و اتخاذ القرار بأن تنام. ، هذه القرارات التي يتخذها الإنسان طوال يومه تنطلق من عملية التخطيط ، من هنا يتضح لنا أن التخطيط هو المنهجية التي نتبعها في تنظيم حياتنا وتحقيق أهدافنا الحالية والمستقبلية.
وهنا يأتي سؤال ما هي أهم شروط المنظمة الناجحة ؟، هى المنظمة التي لديها رؤية مستقبلية تحدد بشكل واضح ودقيق ماذا تريد أن تكون في المستقبل، كما أنها تمتلك رسالة توضح السبب الحقيقي في وجودها، وأن تعرف من هم عملائها وماذا تريد أن تقدم لهم ، وان يكون لديها أهداف محددة، وتمتلك الإرادة والإمكانيات لتحقيقها. مع مراعاة أن تضع في اعتبارها رضا جمهورها الخارجي ، والرضا الوظيفي لموظفيها في نفس الوقت، حتى تستطيع أن تحقق التوازن الإستراتيجي، لأن غياب هذا التوازن يجعل الإستراتيجية في وضع حرج، فمن الناحية المنطقية لا يمكن أن تنجز العمل بكفاءة عالية وتحقق رضا الجمهور، في الوقت الذي يتسم فيه النظام الداخلي لبيئة العمل بعدم الرضا، كما تتصف المنظمة الناجحة بامتلاكها القيم التي تمكنها من تنفيذ أهدافها.
في البداية ننوه بشكل سريع أن التخطيط الإستراتيجي ليس مفهوما حديثا كما يتخيل البعض ولكنه مفهوم موجود منذ القدم، فكلمة إستراتيجية مأخوذة من الكلمة اللاتينية Srtategos وهى تعني فن إدارة الحرب ، وكانت تستخدم قديما في العسكرية ثم انتقلت بعد ذلك إلى الحياة المدنية وبدأ استخدمها في جميع المؤسسات.
وبالتالي يمكن تعريف التخطيط الإستراتيجي بأنه صورة ذهنية لمستقبل المنظمة، بعبارة آخري ما هى الأهداف بعيدة المدى والصورة التي تسعي المنظمة أن تكون عليها في المستقبل؟ . وهذا هو الاختلاف بين التخطيط والتخطيط الإستراتيجي فالأول يركز على أهداف قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل، بينما التخطيط الإستراتيجي يركز على الأهداف الإستراتيجية التي تمتد لسنوات طويلة. وبالتالي التخطيط الإستراتيجي هو الموجه الذي يوجه المؤسسة إلى أهدافها التي تسعي إلي تحقيقها في المستقبل. والمؤسسة بدون التخطيط الإستراتيجي مثل السفينة التي لا يعرف ربانها إلى أين يتجه، وبالتالي تكون السفينة عرضة لمصارعة الأمواج ، نتيجة عدم جهة محددة تسعي للوصول إليها.
من هنا تتجه المؤسسات إلى تطبيق التخطيط الإستراتيجي لأسباب عديدة نعرض هنا بعض منها:
أولا: حتى لا تكون المؤسسة جزءا من خطط الآخرين: لأنك إذا لم تخطط لمؤسستك بشكل واضح ومحدد ستكون جزءا من خطط الآخرين، ، وإذا لم تخطط لنفسك سيخطط لك الآخرون وستدفع الثمن، لأن التأخير في عملية التخطيط سيحملك مخاطر كبيرة ، وبالتالي فوات الأوان سوف يكلفك الكثير ماديا ومعنويا، من خلال تفوق الآخرين عليك وتميزهم عنك ، وعندما تكتشف ذلك يكون مضى الكثير من الوقت ، ولكي تلحق بالآخرين لابد أن تضاعف من جهودك وبالتالي ستدفع الكثير.
ثانيا: الاستغلال الأمثل للموارد: المؤسسة التي ليس لديها تخطيط الإستراتيجي، غالبا لا ترى بشكل واضح ما لديها من إمكانات مادية وبشرية، ولا يمكن أن تكتشف الطاقات التي تتميز بها عن غيرها ، فهي تستخدم بعض من طاقتها و تهمل الكثير، فالتخطيط الإستراتيجي هو إعادة اكتشاف المؤسسة من خلال معرفة مهارات وقدرات العناصر البشرية ، وتحديد رأس المال الفكري فيها والعمل على توظيفه التوظيف السليم، فجميع من يعملون بالمؤسسة هم رأس مال بشري، ولكن داخل كل مؤسسة هناك رأس مال فكري، وهو العناصر المحدودة والمميزة التي تستطيع النهوض بالمؤسسة وتحقيق أهدفها، من ناحية أخرى يسعى التخطيط الإستراتيجي إلى تحقيق الاستغلال الأمثل للموارد المادية المتاحة بالمؤسسة ، فالمؤسسات مليئة بالمواد المادية ولكن أحيانا لا يكون هناك وسيلة مناسبة لاستغلالها بشكل صحيح.
ثالثا: توحيد الجهود : قد يتساءل البعض عندما تطبق مؤسسة ما التخطيط الإستراتيجي ، وخاصة عندما تكون هذه المؤسسة موجودة منذ سنوات، هل هذه المؤسسة لم يكن لديها تخطيط إستراتيجي طوال حياتها العملية؟، وهل هذه المؤسسة لم تكن تعمل بشكل صحيح؟ ، وغيرها من التساؤلات، في واقع الأمر كل المؤسسات لديها خطط وتعمل بكفاءة عالية ، ولكن الفرق بين هذه الخطط والتخطيط الإستراتيجي هو توحيد الجهود داخل المؤسسة بما يعظم الأداء، ولتوضيح هذه الجزئية يمكن تشبيهها بشعاع الليزر ، فهو يستمد قوته وتأثيره من تجميعه وتركيزه في اتجاه واحد. وبالتالي لا يمكن تحقيق التميز إلا بتوحيد الجهود.
رابعا: التفكير خارج الصندوق: دائما ونحن بعيدا عن التخطيط الإستراتيجي نفكر بالشكل التقليدي، ولكن التخطيط الإستراتيجي القائم على الأساس العلمي يعتمد على التفكير الإستراتيجي ، وهو أحد أشكال التفكير الإبداعي الذي يجعلنا ننظر إلى الأشياء بطريقة غير مألوفة ، فالتفكير الإستراتيجي هو الأساس في التخطيط الإستراتيجي، فإذا لم يكن هناك تفكير إستراتيجي قبل وأثناء وبعد صياغة وتطبيق التخطيط الإستراتيجي، فإن التخطيط الإستراتيجي سيكون مجرد محاولات تخطيطية.
خامسا: وجود خطة عمل واضحة: التخطيط الإستراتيجي يركز على وجود خطة عمل واضحة ومحددة لتنفيذ الأهداف، تجيب عن ما الذي يجب عمله؟، و متى؟ ، وأين؟ ، وما هو متوقع حدوثه؟، وما هى الخطط البديلة التي يمكن استخدامها لموجهة القصور في الخطط الحالية نتيجة ظهور أي متغيرات تؤثر في عملية التنفيذ؟. فخطة العمل هى الخطوات اللازم إتباعها لتنفيذ هدف معين.
سادسا : التخطيط الإستراتيجي يجعلك تبدأ وعينك على النهاية: ويقصد بها أن يكون لديك فهم واضح لما تريده ،ويقول ستيفن كوفي في كتابة العادات السبع، أن أي شيء نوجده، أو نبدعه يتكون مرتين، الأولى التكوين الذهني بمعنى إيجاده كفكرة، والثانية التكوين المادي بمعنى تجسيده في الواقع. هكذا التخطيط الإستراتيجي يتجسد لدينا مرتين الأولي في أذهننا من خلال الرؤية الإستراتيجية والثانية في الواقع من خلال التطبيق .
في النهاية يجب أن نعلم أن التخطيط الإستراتيجي في حد ذاته شيء مهم ومطلوب لكل المؤسسات ، ولكن الأهم هو أن تتوفر إرادة التنفيذ ، وفي نفس الوقت توفير الإمكانيات التي تحقق نجاحه، فمجرد وجود خطة إستراتيجية للمؤسسة لا يعني أنها ستكون متميزة ، ولكن توفير المتطلبات المادية والبشرية والتنظيمية والتشريعية محاور أساسية لنجاحها.
المصدر:"مقدمة كتاب فلسفة الإدارة الإستراتيجية للدكتور عبدالرحيم محمد"