الطريق إلى رأس المال الفكري

الطريق إلى رأس المال الفكري

دكتور 

عبدالرحيم محمد

إستشاري  التخطيط الإستراتيجي وقياس الأداء المؤسسي

drabdo68@yahoo.com

 

عندما وصل الإتحاد السوفيتي السابق إلى  سطح القمر عام 1956 اهتزت أمريكا وعاشت في رعب نتيجة التفوق الروسي  وصعوده إلى القمر، بينما هم ما زالوا نائمين على الأرض، اجتمع الكونجرس ليدرس الوضع المستقبلي وما هى الآليات التي تمكنه من الوصول إلى القمر ، وقد جاء التقرير بتوصية رئيسية وهي ، ضرورة تطوير التعليم. وفي عام 1985 عندما غزت السيارة هوندا الأسواق الأمريكية  ، شعرت أمريكا بالخطر وجاء تقرير الاجتماع الذي عقده الكونجرس بعد عدة شهور بعنوان “امة في خطر” ركز على توصية واحد وهي ضرورة تطوير التعليم. فالتعليم هو طريق  المستقبل، و التعليم هو الطريق إلى  المعرفة ، ونحن في عصر المعرفة ، ومن يملكها يستطيع أن يملك كل شيء.

ويحكي التاريخ المعاصر الكثير من الأمثلة التي كان لعب التعليم  فيها دورا بارز في النهوض  بالدول،  على سبيل المثال اليابان وألمانيا في الحرب العالمية الثانية  دمرت بنيتها الأساسية بالكامل. و لكن وفي أقل من نصف قرن عادت وأصبحت في مقدمة الدول.

التعليم هو الذي يجعل الإنسان  يستثمر طاقته ؟

 الإنسان عبارة عن طاقة بشرية، ليس لها حدود، ولكن المهم هو كيف يمكن الاستفادة من هذه الطاقة؟، كيف يمكن استغلالها  الاستغلال الصحيح الذي يحقق عائد أفضل؟ ، ويشير البعض في إحدى الكتابات التي تهتم بالتفكير الإبداعي والاستفادة من طاقة العقل،  وهذا  مثال بسيط يوضح كيف تتحقق القيمة من التفكير،  فقال لو أن هناك قطعة من حديد تساوي 100 ريال لو صنعنا منها حدوات للحصان فيتضاعف ثمنها من 100 ريال  إلي 250  ريال  وإذا صنعنا منها إبرا للخياطة فيتضاعف ثمنها إلي 600  ريال  وإذا صنعنا منها بعض أجزاء الساعات ارتفعت قيمتها إلي حوالي 5000000 (خمسة ملايين)  ريال فالفارق بين 100 ريال   و 5 ملايين ريال  هو استخدام طاقة الإبداع والابتكار التي أودعها الله لدي الإنسان. وهنا يأتي دور التعليم  والتدريب في تنمية قدرات  الناس وتوسعة مداركهم بما يحقق الأهداف.

 

 

البعد عن  الانطباعات السيئة:

كان هناك طالبا  يعتاد أن يذهب إلى المحاضرات وينام طوال المحاضرة ، فحضوره لمجرد الحضور فقط ، حتى لا يحرم من دخول الامتحان ، وكعادته  جاء وجلس في الصف الأخير ودخل في نوم عميق، وانتهت المحاضرة وفجأة نظر حوله وجد نفسه يجلس منفردا داخل القاعه، وقعت عيناه على مسألة  مكتوبة على السبورة،  قام بتدوينها بسرعة كبيرة في دفتره وظل لمدة أسبوع يتردد على المكتبات لحل المسألة حتى يعرضها على الأستاذ في الأسبوع القادم.  ومن خلال جولته والبحث في المكتبات استطاع أن يحل المسألة. وجاء الأسبوع التالي وبعد انتهاء المحاضرة ، تحدث مع الأستاذ وقال له ، أنا توصلت إلى حل  الواجب الذي كلفتنا به الأسبوع الماضي، رد الأستاذ أنا لم أكلفكم بأى واجب، قال الطالب ولكنك كتبت مسألة على السبورة، وأنا استطعت أن أحلها  ، هنا ذهل الأستاذ وراجع إجابة الطالب ووجدها صحيحة، وقال له هذه المسألة  ذكرتها كمثال على الأشياء التي عجز العلم عن  التوصل لحلها، ولكنك استطعت أن تحلها.

الفلسفة في هذه القصة  أن الانطباعات التي يزرعها الآخرون فينا تعرقلنا وتمنعنا عن  الإبداع والابتكار في تقديم حلول لكثير من المشاكل، وهذه من أهم معوقات الإبداع التي تواجه مجتمعنا، فعلينا أن نترك الانطباعات السيئة والبرمجة السلبية بعيدا  حتى نستطيع أن نصل إلى أفكار جديدة.

التحول من ثقافة التلقين إلى ثقافة التذكر:

المشكلة الكبيرة التي تواجهنا في حياتنا جميعا، وتواجه أبنائنا على وجه  الخصوص هى طريقة توصيل المعلومة، كما أن طريقة الاختبارات التي نعتمد عليها تميل كثيرا جدا إلى الحفظ والتلقين، وبالتالي يتحول الطالب من مفكر إلى وعاء لحفظ المعلومات، هذا الوعاء له تاريخ صلاحية ، ينتهي بنهاية الامتحان ، فالتعليم الذي يعتمد على التلقين  هو كذلك، هذا النوع من التعليم لا يحقق أهداف المجتمع، و لا يحقق النهضة والتقدم، ولا يحقق التنمية الإنسانية. وبالتالي زاد الاهتمام حاليا بمفهوم رأس المال الفكري  وأصبح الأساس في  تقيم وتصنيف  المؤسسات، ، وبالتالي تظهر الحاجة إلى  إلى التحول من ثقافة التلقين والحفظ إلى  ثقافة التذكر ، انطلاقا من أن  الخيال أهم من المعرفة ، فلابد من تنمية الخيال لدى المدرس وعند الطالب، وعند الموظف لأن الخيال متجدد دائما أما المعرفة والمعلومات فهي متقادمة وتحتاج إلى تحديث. لا يمكن أن يكون هناك ابتكار إلا إذا كان هناك خيال ، ولا يمكن أن يكون هناك خيال إلا إذا كان هناك أفراد يمتلكون قدرات على التخيل،  وهذا لن يتحقق إلا إذا كان هناك منظومة تعليمية وتدريبية  تقوم على أسس علمية تركز على أساليب غير تقليدية.

فرق العمل  وجودة الأفكار

هناك حكمة تقول نصف عقلك عن أخيك، وهذه حقيقة ، لأنك إذا أخذت المعلومة من  مجموعة أفراد أفضل من  أن تأخذها من  فرد واحد، لأن كل فرد  ينظر إليها من زاويته ، وبالتالي التعليم والتدريب من خلال فرق العمل يحقق جودة الأفكار وهى أفضل من التعليم ذو الاتجاه الواحد، والمقصود بهذا  أن يكون المتعلم فقط متلقي، وبالتالي يكون الشخص الذي يحصل على المعلومة متلقي سلبي يأخذ المعلومة دون مناقشة، كما أن عدم استخدام فرق العمل يؤثر على مهارات الإبداع، لأن  حصوله على  المعلومة من المعلم أو المدرب  فقط دون مشاركة أو بذل مجهود يجعل جانب واحد فقد في المخ هو الذي يعمل وهو الجانب الأيسر ، أما المشاركة الجماعية   من خلال مناقشة الفكرة   تساعد على تنشيط الجانب الأيمن المسئول عن التخيل والابتكار، لأنك هنا تجعله يركز بشكل كبير على بذل مجهود للوصول إلى حلول .

الدول الغنية تصرف على العلم لأنها ليست غنية ولكنها تصرف لتكون غنية

هناك اهتمام كبير على المستوى العالمي بالعملية التعليمية والتدريبية  والبحث العلمي، و الكثير من الدول  تخصص مبالغ كبيرة من موازنتها سنويا لدعم وتطوير البحث العلمي، لأنها تؤمن بأنه الركيزة الأساسية لتحقيق النهوض والتطوير في المستقبل، وهذه الدول تنفق على البحث العلمي وعلى تطوير التعليم والتدريب  ليس لأنها دولا غنية لديها موارد قوية ، ولكن الأمر له وجه آخر فهي تنفق لأنها تريد أن تكون غنية ، وهذه حقيقة هناك الكثير من الدول حققت نهضة كبيرة لأنها  اهتمت بالبحث العلمي، هذه الدول هى تصدر للعالم الأفكار.   فهى لا تمتلك مواد خام أو مصادر طبيعية ولكنها  تعمل دائما على تطوير البحث العلمي، لأنه يوفر لها بدائل الموارد الطبيعة وبدائل الطاقة وغيرها من احتياجاتها التي تمكنها من المنافسة .

 

 

 

الدوائر الثلاث

في كتابة من  جيد إلى عظيم Good To great والذي نشر في عام 2001  يشير جيم كولِنز Jim Collins  والذي كان يعمل في السابق أستاذ بجامعة ستانفورد Stanford University المعروفة، وهو يدير حاليا مركزه للأبحاث الإدارية. هذا الكتاب خلاصة

لبحث استمر لمدة خمس سنوات لمعرفة الأسباب التي تجعل المؤسسات  تنتقل من  المستوى الجيد إلى المستوى العظيم، يري ان  هذه الشركات تحدد اتجاهها باستخدام ثلاث دوائر.

كل دائرة من منها  تختص بسؤال محدد.  فالدائرة الأولى تختص بتحديد  ما هو الشيء الذي يمكن أن نؤديه بحماس شديد؟ والدائرة الثانية تختص بتحديد  ما هو الشيء الذي نستطيع أن نصل فيه إلى المرتبة الأولى عالميا؟ والدائرة الثالثة تختص بتحديد ما الذي يحرك ماكيناتنا  الاقتصادية؟ وتحاول هذه الشركات الوصول للشيء الذي تستطيع أداءه بحماس وشغف والشيء الذي تستطيع أن تبدع فيه والشيء الذي يحقق مكاسب اقتصادية.

هذه الدوائر الثلاث لا يمكن تحقيها في أى مؤسسة من المؤسسات إلا إذا كانت هناك جودة في العنصر البشري وتحقيق الجودة أيضا يتطلب دوائر ثلاث،  الدائرة الأولي التعليم المرتبط بسوق العمل، الدائرة الثانية المهارات والمواهب الموجودة داخل الفرد، والدائرة الثالثة هى قدرة المؤسسات على تنمية مهارات الأفراد والبحث عن رأس المال الفكري في المؤسس و اكتشافه  وتوظيفه التوظيف الصحيح.

تذكر أن  القاسم المشترك  بين والت ديزني و توماس إيدسون وألبرت أينشتاين  وهنري فورد وابن بطوطة، والرازي  وغيرهم من العلماء الذين غيروا التاريخ  هو الإصرار والعمل المستمر والرؤية الواضحة والرغبة في أن يكون لهم بصمات مؤثرة في تاريخ الإنسانية.  هؤلاء والكثير من أمثالهم هم رأس المال الفكري ، والذي عبر عنهم الشاعر في قولة:

الناس صنفان  موتى في حياتهم                            وآخرون بباطن الأرض أحياء

 

Author: د. عبدالرحيم محمد عبدالرحيم

دكتور عبدالرحيم محمد عبدالرحيم استشاري التخطيط الاستراتيجي وقياس الأداء المؤسسي والتدريب عضو هيئة تدريس (منتدب) – كلية المجتمع – دولة قطر drabdo68@yahoo.com www.dr-ama.com

Share This Post On